كيف تعمل الثورة الرقمية على تحول الاقتصاد العالمي وكيف يمكن للبلدان النامية اغتنام الفرصة
07 May 2021وفقا لتقرير اصدره مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، يتناول فيه آثار الاقتصاد الرقمي، وبخاصة في البلدان النامية بالنظر الى التطورات الهائلة التي يشهدها العالم. حيث غيرت الثورة الرقمية حياتنا ومجتمعاتنا بسرعة لم يسبق لها مثيل، وهو ما يفتح الطريق لفرص هائلةً ولكن يشكل تحديا مخيفا في نفس الوقت. حيث ينظر الى التكنولوجيات الجديدة كوسيلة لتحقيق مساهمات ضخمة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، ولكن يحذر التقرير من أن الوصول الى النتائج الإيجابية لا يمكن تحقيقه دون تضافر الجهود الدولية والتعاون الدولي، هذا إذا ما أردنا الانتفاع الكامل من إمكانات التكنولوجيا الرقمية الاجتماعية والاقتصادية وتجنب الآثار غير المرغوب فيها.
ومن ميزات الاقتصاد الرقمي هو أنه يمكن استخدام البيانات الرقمية لأغراض إنمائية ولحل المشاكل المجتمعية، بما فيها تلك التي تتعلق بأهداف التنمية المستدامة. ويمكنها بذلك أن تساعد على تحسين النتائج الاقتصادية والاجتماعية، وأن تصبح قوة محركة للابتكار ونمو الإنتاجية. ومن منظور الشركات، يمكن لتحول جميع القطاعات والأسواق عن طريق الرقمنة أن يعزز إنتاج سلع وخدمات على مستوى أعلى من الجودة بتكاليف منخفضة.
لقد ولد التقدم الرقمي ثروة طائلة في وقت قياسي، ولكن بقيت هذه الثروة متركزة في مجموعة صغيرة من الأفراد والشركات والبلدان. وفي ظل السياسات الراهنة فمن المرجح أن تزداد ظاهرة عدم المساواة، خاصة مع وجود الفجوة الرقمية، ويعاني أكثر من نصف العالم من محدودية الفرص بسبب انعدام الاتصال بالإنترنت. ومن هنا يعتبر الشمول أمرا ضروريا لبناء اقتصاد رقمي يخدم الجميع.
تؤدي التكنولوجيات الجديدة، وبخاصة الذكاء الاصطناعي، إلى تحول كبير في سوق العمل، ويشمل ذلك اختفاء فرص عمل في بعض القطاعات، وإيجاد فرص جديدة في قطاعات أخرى على نطاق واسع. وسيتطلب الاقتصاد الرقمي مجموعة من المهارات الجديدة والمختلفة، وجيلاً جديداً من سياسات الحماية الاجتماعية، وعلاقة جديدة بين العمل والترفيه.
بحث التقرير آثار الاقتصاد الرقمي الناشئ على البلدان النامية من حيث استحداث القيمة واغتنامها. وسلط الضوء على المحركين الرئيسيين لاستحداث القيمة في المجال الرقمي - وهما البيانات الرقمية وإنشاء المنصات - وكيفية الاستعاضة عن الاتجاهات الراهنة لتركيز الثروة بمسارات تؤدي إلى تبادل مكاسب الرقمنة بطريقة أكثر إنصافاً.
وبالنظر الى أننا لا نزال نعيش بكورة التحول الرقمي، فان هناك العديد من الأسئلة عن كيفية التصدي للتحدي الرقمي. وبالنظر إلى غياب الإحصاءات والأدلة المستمدة من التجربة في هذا الشأن، فضلاً عن سرعة وتيرة التغير التكنولوجي، يواجه اصحاب القرار هدفاً متحركاً وهم يحاولون اعتماد سياسات سليمة فيما يتعلق بالاقتصاد الرقمي.
أولى التقرير اهتماماً خاصاً للفرص السانحة أمام البلدان النامية لكي تستفيد من الاقتصاد الرقمي المستند إلى البيانات باعتبارها بلداناً منتجة ومبتكرة لا سيما فيما يتعلق بالبيانات الرقمية والمنصات الرقمية. وقد تسببت الرقمنة في ظهور تحديات أساسية لمقرري السياسات في البلدان على كافة المستويات التنموية. وتتطلب التطورات الرقمية سياسات مبتكرة وتعاوناً أكبر على الصعيد العالمي تجنباً لاتساع الفجوة في الدخل بين الدول والافراد.
يعود توسع الاقتصاد الرقمي الى عاملين رئيسيين:
- البيانات الرقمية
- المنصات الرقمية
يواصل الاقتصاد الرقمي تطوره بسرعة مذهلة مدفوعا بالقدرة على جمع واستخدام وتحليل كميات ضخمة من المعلومات التي تستطيع الآلة قراءتها (البيانات الرقمية). وتنشأ هذه البيانات عن الأنشطة الشخصية والاجتماعية والمتعلقة بالأعمال التجارية في مختلف المنصات الرقمية. فالحركة على الشبكة العالمية (الإنترنت)، وهي وسيلة من وسائل تدفق البيانات، نمت من نحو 100 غيغابايت يوميا في عام 1992 الى أكثر من 45 الف غيغابايت في الثانية في عام 2017، ومن المتوقع أن تصل الحركة على الشبكة العالمية الى اكثر من 150 الف غيغابايت في الثانية بحلول عام 2022 تغذيها أعداد متزايدة لمن سيتصلون بالإنترنت للمرة الأولى والتوسع في إنترنت الأشياء.
تعتبر المنصات الرقمية المحرك الثاني. حيث ظهر في العقد الماضي العديد من المنصات الرقمية في شتى انحاء العالم. تستخدم هذه المنصات نماذج أعمال مستندة إلى البيانات، وأحدثت، في أعقاب ظهورها، اضطراباً في الصناعات القائمة. وتظهر قوة المنصات في أن سبعة من أكبر الشركات الثمانية في العالم تستخدم نماذج أعمال قائمة على المنصات. وتوفر المنصات الرقمية الآليات اللازمة للجمع بين عدة أطراف ليتفاعلوا على الإنترنت. ويمكن التمييز بين منصات المعاملات ومنصات الابتكار. أما منصات المعاملات، فهي أسواق ثنائية/متعددة الجوانب تمتلك هيكلاً أساسياً على الإنترنت يدعم المبادلات بين عدد من الأطراف المختلفة. وقد أصبحت نموذج أعمال رئيسياً للشركات الرقمية الكبرى مثل إيباي (eBay) وفيسبوك (Facebook) علي بابا (Alibaba) أمازون (Amazon) ديدي تشو شينغ ( (Didi Chuxingأوبر ((Uber او (Airbnb) وأما منصات الابتكار، فهي تهيئ بيئات لمنتجي الشفرة المصدرية أو المحتوى من أجل تطوير تطبيقات وبرمجيات في أشكال مثل نظُم التشغيل (أندرويد أو لينكس).
تطوير الاقتصاد الرقمي غير متكافئ إلى حد كبير من الناحية الجغرافية
يسود العالم اليوم فجوة واسعة بين البلدان التي لا يتوفر لديه التوصيل الرقمي والبلدان الفائقة الرقمنة. على سبيل المثال واحد من بين كل خمسة أشخاص في أقل البلدان نمواً يستخدم الإنترنت في مقابل أربعة من بين كل خمسة أشخاص في البلدان المتقدمة.
كما أن أفريقيا وأمريكا اللاتينية تستحوذان معاً على أقل من 5 في المائة من مراكز البيانات المشتركة في موقع واحد. وإذا لم يجر التصدي لهذه الفجوات، فإنها ستؤدي إلى تفاقم التفاوتات في الدخل. ولهذا اصبح من الضروري النظر في كيفية تأثر البلدان النامية بهذا التطور من حيث استحداث القيمة واغتنامها، وما ينبغي عمله لتحسين الوضع الراهن.
من جهة أخرى يستحوذ كل من الولايات المتحدة والصين على 75 في المائة من جميع براءات الاختراع المتعلقة بتكنولوجيات سلاسل الكتل (blockchain)، و 50 في المائة من الإنفاق العالمي على إنترنت الأشياء، وأكثر من 75 في المائة من السوق العالمية للحوسبة السحابية العامة. ولعل أكثر ما يثير الدهشة أنها تستحوذ على 90 في المائة من قيمة الرسملة السوقية لأكبر 70 منصة رقمية في العالم. وتبلغ حصة أوروبا 4 في المائة، وأفريقيا وأمريكا اللاتينية معاً 1 في المائة فقط. وتستأثر سبع منصات (Tencent) وغوغل، وفيسبوك، وأبل وأمازون، ومايكروسوفت وعلي بابا - بثلثي القيمة السوقية الإجمالية. وهكذا، فإن بقية العالم، وبخاصة أفريقيا وأمريكا اللاتينية، يقبع في ذيل القائمة خلف الولايات المتحدة والصين فيما يتعلق بالعديد من التطورات التكنولوجية الرقمية.
تحويل البيانات إلى ذكاء رقمي هو العامل الرئيسي للنجاح
لقد أصبحت البيانات مورداً اقتصادياً جديداً لاستحداث القيمة واغتنامها فضلا عن كونها توفر ميزة تنافسية. وللبيانات الرقمية أهمية جوهرية لجميع التكنولوجيات الرقمية السريعة البزوغ، مثل تحليل البيانات، والذكاء الاصطناعي، وسلسلة الكتل، وإنترنت الأشياء، والحوسبة السحابية، وجميع الخدمات القائمة على الإنترنت.
ويمكن أن تستفيد الشركات المحلية في البلدان النامية من الخدمات التي تتيحها المنصات العالمية. وفي بعض الحالات، يمكن أيضاً أن تعطي المعارف المحلية ميزة للمنصات الرقمية فتتمكن من تقديم خدمات مصممة خصيصاً لاحتياجات المستخدمين المحليين. ومع ذلك، ونظراً لديناميات المنافسة المبينة أعلاه، تواجه منصات البلدان النامية التي تسعى إلى توسيع نطاقها عامةً معارك ضارية. وتكمن المشكلة في هيمنة المنصات الرقمية العالمية، وتحكمها في البيانات، فضلاً عن قدرتها على استحداث ما يترتب على ذلك من قيمة واغتنامه، مما يزيد من تركز القوة وزيادة التفاوت بين البلدان وداخلها بدلاً من تقليصها.
ثمة حاجة لصياغة سياسات لكي ينجح الاقتصاد الرقمي في العمل لصالح الجميع، لا لصالح القلة
ليست التكنولوجيا قاطعة النتائج. فهي تهيئ فرصاً وتطرح تحديات على حد سواء. والأمر متروك للحكومات، بالتحاور عن كثب مع أصحاب المصلحة الآخرين لتشكيل الاقتصاد الرقمي بتحديد قواعد اللعبة.
ويتطلب تطور الاقتصاد الرقمي تفكيراً اقتصادياً وتحليلات سياساتية غير تقليدية، بحيث تضع الاستجابات السياساتية في الاعتبار تراجع الحدود الفاصلة بين القطاعات بسبب التحول إلى الخدمات، فضلاً عن زيادة صعوبة إنفاذ القوانين والأنظمة الوطنية فيما يتعلق بالتجارة العابرة للحدود خاصة الخدمات والمنتجات الرقمية.
وبينما يمكن التصدي لبعض المسائل عن طريق السياسات والاستراتيجيات الوطنية، سيتطلب الطابع العالمي للاقتصاد الرقمي مزيدا من التعاون والتحاور وبناء التوافقات ورسم السياسات على المستوى الدولي. ان هناك حاجة لسياسات وطنية كونها تؤدي دوراً حيوياً في تحضير البلدان لاستحداث القيمة واغتنامها في العصر الرقمي.
وبالنظر إلى طابع الرقمنة المشترك بين عدة قطاعات، فمن المهم وجود استجابة من الحكومات لصياغة سياسات تهدف إلى تأمين الفوائد والتصدي للتحديات، ويشكل إعطاء دفعة لتنظيم المشاريع في القطاعات الرقمية والمستندة إلى الرقمنة عاملاً رئيسياً لاستحداث القيمة على الصعيد المحلي. ويواجه منظمو المشاريع الرقمية في العديد من البلدان النامية حواجز مختلفة أمام توسيع نطاق أنشطتهم، وخاصة المنافسة الرقمية العالمية حيث تستحوذ شركات عالمية على فئات المنتجات الرقمية الأكثر قابلية لتوسيع النطاق.
بالنسبة لأغلبية البلدان النامية قد تكمن فرص السوق بصفة خاصة في الأسواق الرقمية المحلية و/أو الإقليمية للسلع والخدمات. ويمكن أن تسعى السياسات إلى تحفيز مجموعات مختلفة داخل منطقة ما على إنشاء قواعد معرفة تقنية تكميلية ومتعمقة.
التوصيات
يوصي التقرير الحكومات بتقليل التركيز على مسابقات البرمجة الحاسوبية الجماعية (Hackathon) ومعسكرات التدريب (bootcamps) أو المشاريع الرفيعة المستوى (مثل المجمعات التكنولوجية) وأن تكثف الجهود لتعزيز الاستحداث الضمني للمعرفة عن طريق برامج التوجيه، والتدريب المهني، والتلمذة الصناعية، والتدريب الداخلي.
سياسات تسخير البيانات الرقمية
عندما يتعلق الأمر باستحداث القيمة فان البلدان التي لديها قدرات محدودة على تحويل البيانات الرقمية إلى ذكاء رقمي وفرص تجارية في موقف ضعيف جدا. وللحيلولة دون زيادة الاعتماد على الغير في الاقتصاد العالمي المستند إلى البيانات، ينبغي أن تسعى استراتيجيات التنمية الوطنية إلى الترويج للتحديث الرقمي (إضافة القيمة) في سلاسل القيمة، وتعزيز القدرات المحلية لـ "تحسين نوعية" البيانات.
كما يتطلب الأمر سياسات وطنية لتحسين إمكانية اغتنام الفرص والتصدي للمخاطر والتحديات المرتبطة بالتوسع في البيانات الرقمية. كما يتطلب سياسات لتخصيص ملكية البيانات والتحكم فيها؛ وبناء ثقة المستهلك وحماية خصوصية البيانات، وتنظيم تدفقات البيانات عبر الحدود، وبناء المهارات والقدرات ذات الصلة لتسخير البيانات الرقمية لأغراض التنمية.
العصر الرقمي يتطلب تحديثا لسياسات المنافسة وفرض الضرائب
نظراً للآثار الشبكية والميل إلى تركيز الأسواق في الاقتصاد الرقمي، سوف يتعين أن تؤدي سياسة المنافسة دوراً أهم في سياق استحداث القيمة واغتنامها. ويتعين تعديل الأطر القائمة لتوفير أسواق تنافسية وحرة في العصر الرقمي. ويستند النهج السائد حالياً في لوائح مكافحة الاحتكار إلى قياس الضرر الواقع على المستهلكين في شكل أسعار مرتفعة. وينبغي توسيعه ليشمل النظر، على سبيل المثال، في خصوصية المستهلك، وحماية البيانات الشخصية، واختيار المستهلك، وهيكل السوق، وتكاليف تغيير مقدمي الخدمات، والآثار الناجمة عن تجميد المعاملات. وبالإضافة إلى ذلك، ينبغي وضع سياسة مناسبة للمنافسة وإنفاذها داخل الإطار الإقليمي أو العالمي.
ولعل الجهود المبذولة على الصعيدين الإقليمي والعالمي أكثر فعالية في التصدي للممارسات التعسفية، وفي كفالة فتح المنصات المهيمنة أمام الشركات المحلية والإقليمية في ظل أحكام وشروط عادلة.
ويشكل فرض الضرائب شاغلاً رئيسياً آخر لاغتنام القيمة. وتعيد البلدان التفكير في كيفية توزيع الحقوق الضريبية لمنع احتمالات فرض ضرائب غير كافية على المنصات الرقمية الرئيسية في الاقتصاد الرقمي السريع التطور. ولما كانت البلدان النامية بصفة رئيسية أسواقاً للمنصات الرقمية العالمية، وكان مستخدموها يساهمون بقوة في توليد القيمة والأرباح، فينبغي أن تتمتع السلطات في هذه البلدان بالحق في فرض الضرائب على هذه المنصات. ومع تطور المشهد الضريبي في السنوات المقبلة، من الضروري ضمان مشاركة البلدان النامية مشاركة أوسع وأشمل في المناقشات الدولية المتعلقة بفرض الضرائب على الاقتصاد الرقمي.